كورونا – الفيروس المربّي
لمّا قُرِّر لفيروس كورونا الانتشار خارج الصّين، كان الفيروس قد أخبر الصينيّين عن خصاله وقدّم لهم بعض الوسائل المساعدة على اجتنابه. فهو ثقيل لا ينقله الهواء، وهو سريع الانتقال عن طريق حاملِه. لا تُضمن السّلامة منه إلّا باجتناب حامِلِه. ليس سهلا التعرّف على حامله، ويجب إذن التحوّط واعتبار كلّ متنقّل حامله. فيروس اعتمد لانتشاره اللمس أو الاقتراب المتحاملِ على اللمس. فيروس تقتله النّظافة باعتماد الصّابون والماء، فمن رغب في السّلامة أدمن النّظافة فقتله. تلك بعض المعطيات والمعلومات التي وفّرها الفيروس لبقيّة أنحاء العالم زمن مكوثه في الصّين منفردا بأهل الصّين.
كان “الشّعراءُ” يبدعون في الحديث عن فيروس هاجم الصّين، التي ظلم حكّامها رعيّتها واعتدت طوائفها على طوائفها. ظنّوا أنّه جاء خصّيصا لأهل الصّين العتاة المعتدين. رأوا بقيّة العالم كما لو كانوا على خير وبلا شرور، رغم أنّ شرورهم تتجاوز شرور أهل الصّين. أغفلهم شعرُهم زمنا، فإذا الفيروس يفاجئهم في ديارهم، يفعل بهم ما لم يفعله في الصّين. يثخنهم فيتجاوز عدد قتلاه في بعض الأماكن عدد قتلاه في بلاد الصّين. تنادى الجميع في العالم، هذا كورونا قد صبّحكم ومسّاكم، فإيّاكم ثمّ إيّاكم ثمّ إيّاكم. لا تتقاربوا ولا تتصافحوا ولا تتعانقوا ولا يقبّل بعضكم بعضا، ولا تتفاحشوا.
قدرة هذا الفيروس على تعليم النّاس الانضباط
كانت الإجراءات المتّخذة متراوحة بين السلوك الإنسانيّ وبين السّلوك “الخشن” الخادم للإنسانيّة. وكان المسؤولون في المملكة الدنماركيّة يعاملون الجميع بما يخدم عندهم الإنسانيّة. صيغت التوصيات واضحة سهلة الفهم والاتّباع، فتفاعل معها النّاس جميعا لا يُخِلّون بالاتّباع.
تُتابِعُ، فتلاحظ قدرة هذا الفيروس على تعليم النّاس الانضباط أو تتجلّى لك قدرته على جعلهم يتّبعون بإتقان التّعليمات التي دعتهم إلى الانضباط. فالشوارع شبه مقفرة، والمتنقّلون فيها كأنّهم لا يتعارفون، لولا إشارات خفيّة تصل حدّ الممازحة، تثبت أنّهم متعارفون.
ظلّ الاهتمام بالحدث كبيرا والخوف من الفيروس أكبر والزّهد فيما كان يشغل النّاس أو ما كان ينمّي الخلاف بينهم – قبل وصوله – أكبر وأكبر. غير أنّ العنصريّة لازالت متمكّنة من بعض معتنقيها، كهذا الرّسموس المرابط أمام المساجد، يستنفزّ بعض مرتاديها، فيجعل أحدهم يعمد إلى “الاعتداء” عليه، رغم التنبيهات المؤكّدة على اجتناب ذلك ورغم توصيات الأئمّة في المساجد. كان على هذا الرّسموس وعلى مسنديه أن يرتدعوا على الأقلّ من كورونا، فهو لا يتخيّر ضحاياه. كان عليهم أن يوجّهوا ملايين الكرونة إلى مواجهة كورونا، محليّا بتطوير ما أنجز وجَبْرِ ما نقص، أو خارجيّا بمساعدة الذين يوجدون في العراء غير قادرين على مواجهة كورونا، بدل أن يبذّروها مستهينين بالإنسانيّة، مواصلين الأعمال المستفزّة غير اللّائقة بالبلاد، غير المناسبة للظّرف الذي تمرّ به البلاد. يقول النّاس: أنحذر كورونا أم نحذر الذين يسيؤون للنّاس أكثر من كورونا.
كورونا نجح في تعميم النّظر ومدّ البصر
لقد نبّه كورونا إلى ضعف النّاس وإلى وحشيّة النّاس. ضعُف النّاس فما استطاعوا تحمّل المكوث في البيوت رغم ما فيها من وسائل الرّفاه. توحّش النّاس لمّا سجنوا النّاس عشرات السّنين، بل جعلوهم في الزنزانات الفرديّة كلّ تلكم السّنين.
” مَن راقبنا في الدّنمارك، لاحظ بعض الفروق بين الدنماركيّين الأصليّين وغيرهم من غير المسلمين، وبين المسلمين. فروق برزت باختلاف الثقافات وخاصّة اختلاف القناعات والمعتقدات. فالخوف من كورونا والخوف من الموت به، كان مرتفعا عند البعض منخفضا عن آخرين منعدما عند البعض الآخر.
عبد الحميد العداسي
لقد نبّه كورونا إلى حقيقة الموت وشدّ لها الأنظار كثيرا، وأبكت قصصه المتناقلة كثيرا من النّاس في المعمورة. كأنّهم لم يسمعوا من قبل عن الموت وكأنّهم لم يعرفوا معنى الفتك. فالأسلحة “الذكيّة” والبراميل المتفجّرة والأحزمة النّاسفة والصواريخ العابرة الموجّهة والفسفور الأبيض قد فعلت في النّاس أضعاف أضعاف ما فعل كورونا في النّاس. غير أنّ تلك المصائب كانت بعيدة عن ديارهم وأنّ تلك الخسائر المهولة في الأرواح لم تكن تطال أكبادهم.
لقد وضّح كورونا الرؤيا وكشف الجريمة وفضح الوهن في العلاقة. كأن لم يربط سكّان العالم شيء مع أنّهم جميعا إخوة. كأن لم يصلهم واصل مع أنّ الوسائل السمعيّة والبصريّة لا تنقصهم. لقد نجح كورونا في تعميم النّظر ومدّ البصر واعتبار الشعوب كلّها أصنافا لا يخرج بعضها – وإن اختلفوا – عن جنس البشر.
لقد جعل كورونا العالم – كما هو – قرية صغيرة، يطّلع الذي في أدناها على ما يحدث للّذي في أقصاها. لقد نبّه كورونا “الكبار” في العالم إلى قيمة الصّغار، ودعاهم – لو فقهوا – إلى عدم الإضرار بأرض، لم يكن العيش فيها أبدا حكرا على “الكبار”. لقد استعمل معهم بعض القوّة، منبّها إيّاهم إلى سوْءة استعمال القوّة. لقد حاول تعزيرهم وإذلالهم ليلفت انتباههم إلى أنّه ما كان يجدر بهم الطّغيان والتعدّي على الضّعاف والصغار والعمل على إذلالهم.
ماذا بعد؟
مَن راقبنا في الدّنمارك، لاحظ بعض الفروق بين الدنماركيّين الأصليّين وغيرهم من غير المسلمين، وبين المسلمين. فروق برزت باختلاف الثقافات وخاصّة اختلاف القناعات والمعتقدات. فالخوف من كورونا والخوف من الموت به، كان مرتفعا عند البعض منخفضا عن آخرين منعدما عند البعض الآخر. يأخذ المسلم بالأسباب – كما قال بعض علمائنا – كأنّها كلّ شيء، ثمّ يتوكّل على الله كأنّها (أي الأسباب) ليست بشيء. وهو ما يقلّل لديه الخوف من الموت؛ إذ الموت لا يكون إلّا بأجل. غير أنّ هذه القناعة الصّحيحة قد تنحرف عن المقاصد فتؤثّر على السّلوك. وهو ما جعل المراقب يلاحظ بداية أيّام الحظر عدم التزام الدّكاكين والمحلّات العربيّة بصرامة بالتوصيات الخاصّة أساسا باحترام المسافات. ثمّ ما لبثت هذه المظاهر أن اختفت أو هي تقلّصت ليظلّ السمت العامّ متجانسا أو شبه متجانس.
ستمرّ هذه الأزمة بإذن الله تعالى، وسوف تخلّف – لو كنّا حريصين على إنسانيتنا – الكثير من الحبّ والكثير من الحرص على مراجعة السّلوك ونبذ الفاسد منه والعمل على ترميم الجسور بين النّاس وبين الحضارات. سوف تعود بعض العادات القديمة التي نبّه كورونا إلى أهمّيتها ونجاعتها، فما كان صحيحا مثلا الاكتفاء بالورق والاستغناء عن الصّابون والماء، تعبيرا عن التحضّر. وما كان لائقا التعرّي الفاحش المفضي إلى جعل العِرض متاحا للعَرض. سوف يقتنع غير المسلمين باستعمال الماء وربّما يبحثون عن سرّ الوضوء للصّلاة، وربّما يدعوهم ذلك إلى التوقّف مع الصّلاة. سوف يتوقّف آخرون عند الفيروس، ليس فقط لتوفير اللقاح والدّواء المضادّ له، ولكن للبحث العميق في ذاته. مَن صغّره حتّى بات لا يُرى بالعين المجرّدة ومَن قوّاه حتّى هدّد الورى بالفناء. سوف يغادر وقد أعاد للعائلة قيمتها ودفئها ودورها الرّائد في المجتمع. سوف يغادر وقد جعل النّاس يراجعون علاقاتِهم بالعمل، فيقبلون عليه برغبة استثنائيّة، يفرغون في ساعاته فائض الطّاقة التي كبتت بملازمة البيت. سوف يجعلهم التباعد الاجتماعيّ الذي فرضه عليهم كورونا حريصين على التقارب والتواصل واجتناب إقصاء الآخر. سوف تكون الكثير من الوقفات التي قد تصلح شأن الإنسانيّة…
وإنّا لنرجو في النّهاية ألّا نكون، من جديد، بحاجة إلى فيروس آخر، كي يذكّرنا أنّ الانتماء للإنسانيّة يعني عدم الإضرار بها والعمل الجدّيّ على نفعها وكسر أحد المكيالين للكيل بالذي بقي لكلّ أبنائها… والله من وراء القصد.