الدنمارك و كورونا: من الاحتواء البطيء إلى المواجهة الصادمة
كما هو الحال في جميع الاوبئة التي اجتاحت العالم عبر التاريخ، تنبهت البشرية لخطورة وباء كورونا 2 في وقت متأخر جدا. فقد تهاونت الصين كثيرا، وهي نقطة انطلاق الوباء، وشككت في تحذيرات المختصين، وخسرت بذلك وقتا ثمينا قبل ان تتدخل بقوة. وفي الدنمارك مرت عدة أسابيع قبل أن تبدأ الحكومة إجراءاتها الصارمة التي نعيشها حالياً. ففي السابع من يناير/كانون الثاني الماضي تم تحديد فايروس كورونا 2 ومرض كوفيد 19 في الصين، وبعد ذلك التاريخ بخمسين يوما تقريبا سجلت الدنمارك أو إصابه بهذا المرض. خلال هذه الفترة لم تتخذ الدنمارك أية تدابير احتياطية لجهة تأمين لوازم الفحص الطبي والاجهزة واللوازم الطبية الاخرى، مما أثر ويؤثر حتى الأن في جاهزية القطاع الصحي لمواجهة الوباء. وقد اعترف المسؤولون الدنماركيون بذلك لاحقا وفي مقدمتهم وزير الصحة (ماونس هيونك) ورئيس المجلس الوطني للصحة (سورن بروستروم). ولكن مع ذلك فأن حكومة الدنمارك نجحت الى حد كبير في تطوير أساليب تعاطيها مع هذا الوباء أكثر من بلدان أوربية عديدة، وتبعا لتطور مساحة العدوى في عموم البلد.
بين الإحتواء والتخفيف
فقد غيرت الحكومة خططها في التعامل مع الوباء حسب تطوره. في البداية اتبعت خطة الاحتواء Inddæmning القائمة على أساس حجر المصابين ومخالطيهم عن المجتمع، والتقليل من التجمعات الكبيرة التي تفوق الألف شخص. ولكن بعد ان كثرت الاصابات واتسع نطاق العدوى تركت الحكومة والجهات الصحية المسؤولة خطة الاحتواء وبدأت باتباع خطة أخرى تقوم على التخفيف والمواجهة Afbødning وذلك باغلاق حدود البلد، وتقييد إيقاع الحياة العامة والسلوك الاجتماعي أكثر فأكثر، حيث خفضت الحد الاقصى للتجمع، وعطلت المدارس والجامعات ورياض الأطفال وحضاناتهم وصرفت الموظفين العموميين. وفي تطور لاحق في نفس الاتجاه عطلت الحكومة حياة الشارع الى حد كبير عندما أغلقت معظم المحال التجارية وفرضت عقوبات على المخالفين وذلك من أجل كسر سلسلة العدوى.
” مما تقدم يتضح أن الدنمارك نجحت حتى الٱن، في تجنب السيناريوهات الكارثية التي وقعت في بلدان أخرى مثل إيطاليا وأسبانيا وإيران وغيرها. كما أنها خففت الى حد كبير من تبعات الوباء الاقتصادية.
محمد حمزة
وترافقت تلك الإجراءات الصارمة وغير المسبوقة مع إجراءات مالية غير مسبوقة أيضا، حيث أصدرت الحكومة، مدعومة من جميع الأحزاب البرلمانية، حزم مساعدات مالية ضخمة وصلت في مجموعها حتى الآن الى حوالي 290 مليار كرون، لمساعدة القطاعات الاقتصادية التي تضررت بالإغلاق، وللحيلولة دون تسريح مئات الٱلاف من العمال والموظفين في القطاع الخاص. وحرصت الحكومة على إشراك الفعاليات الاقتصادية والمالية المهمة في البلد، مثل الاتحادات الاقتصادية والنقابات والشركات الكبرى والبنوك، في خططها لمواجهة النتائج السلبية المتوقعة على الوضع الاقتصادي للبلد في المنظورين القريب والبعيد، . حيث عقدت رئيسة الحكومة وبعض وزرائها اجتماعات فيديوية مع هذه الفعاليات وتوصلت الى حلول شاملة تم تشريعها في قوانين عاجلة.
إلى متى؟
ولكن الى متى سيستمر البلد مغلقاً تحت وطأة الوباء؟ وهل سيكون الثالث عشر من نيسان/أبريل القادم، موعدا لبداية النهاية المنتظرة لهذا الكابوس الصحي والاقتصادي؟ وهل تكفي حزم الدعم المالي الضخمة التي أصدرتها الحكومة مؤخراً، لإنقاذ الاقتصاد من أزمته الحالية واللاحقة؟ هذه الاسئلة تؤرق ولا شك جميع الناس وخصوصاً السيدة ميتا فريدريكسون وحكومتها. وتتردد على كل لسان في الدنمارك. أما الاجابة القاطعة عليها فما زالت بعيدة المنال، حتى لدى رئيسة الحكومة ووزرائها. ولكن بارقة الأمل المنتظرة ظهرت بوضوح في المؤتمر الصحفي الأخير (30/3) للسيدة ميتا فريدريكسن عندما قالت: (إذا استمرينا نحن الدنماركيين في الاسبوعين القادمين، خلال عيد الفصح، بالوقوف معاً ولكن متباعدين عن بعضنا البعض، وإذا ظلت الارقام مستقرة ومعقولة، فستبدأ الحكومة، بهدوء وسيطرة، في فتح مجتمعنا بالتدريج بعد عيد الفصح)…. أي بعد الثالث عشر من أبريل. ومع بارقة الأمل هذه حذرت رئيسة الحكومة من تشديدات إضافية إذا ساءت الأحوال، أي إذاارتفعت معدلات الإصابة بشكل كارثي. من ناحيته أعلن المدير الفني في معهد الأمصال الدنماركي (كور مولباك) بأن معدلات الإصابة الحالية سجلت انخفاضاً ملحوظاً، وعزى ذلك إلى الإجراءات السريعة والفعالة التي اتخذتها الحكومة وخصوصا تلك التي بدأت منذ الحادي عشر من ٱذار/مارس المنصرم، وما لحقها من إجراءات إضافية.
مما تقدم يتضح أن الدنمارك نجحت حتى الٱن، في تجنب السيناريوهات الكارثية التي وقعت في بلدان أخرى مثل إيطاليا وأسبانيا وإيران وغيرها. كما أنها خففت الى حد كبير من تبعات الوباء الاقتصادية. ويعود ذلك أولاّ إلى القرارات الحكومية السريعة، وإلى تجاوب الشعب الدنماركي معها والتزامه بها، وكذلك إلى دعم جميع الأحزاب البرلمانية لهذه القرارات التي اتخذت شكل قوانين وقواعد تم تنفيذ الكثير منها حتى الٱن. ولاشك أن هذه المحنة العالمية والأكلاف الباهضة التي تسببت بها، ستلقي بضلالها الكثيفة على عالم ما بعد الوباء. وسيكون للدنمارك نصيبها من ذلك حتماً. وهذا ما ستكشفه الأسابيع والأشهر القليلة القادمة.