زمن الكورونا .. هل هو أسوأ الأزمان؟
الدنمارك بألف خير، وهناك من المؤشرات ما يبعث على التفاؤل بأننا سنتجاوز هذه المحنة بسرعة، فكل الإمكانات مستنفرة، والتعاضد الاجتماعي في ذروته. والحمد لله فعالمنا يزخر بالأطباء، والاختصاصيين في كل مجالات الطب. ولم يبخل هؤلاء علينا خلال الأسابيع القليلة الماضية بعلمهم وخبرتهم في إرشادنا، وتقديم النصائح لنا، وبزخم كبير، حول طرق مواجهة وباء كورونا، الوقاية منه، والحد من آثار عدوانيته.
الوباء عدو مبين للبشر، وللتغلب عليه هناك وصفة واحدة لا بديل عنها تتلخص في جملة واحدة: التعاون بين ملايين الأفراد العاديين وبين الجيش الوحيد المؤهل للقضاء على الوباء. ونعني بهذا الجيش جحافل العلماء والأطباء وكل العاملين في مجال الطب الذين يجهد قسم كبير منهم في العناية بالمصابين، ويرشدوننا في الوقت نفسه إلى كيفية حماية أنفسنا، بينما يسابق آخرون منهم الزمن في إيجاد لقاحات وعلاجات.
ولكنْ، كما هي الحال مع كل مصيبة تحل ببني الإنسان، فإن وباءًا بهذه الخطورة يصاحبه عادة ظهور نظريات وفرضيات تنم عن محاولة لفهم أسبابه، وتقدير حجمه، وما ستتمخض عنه من نتائج. بل ويمكن أن يطلق العنان للبشر للكشف عن مواقف وأساليب غريبة في التعامل مع الكارثة. وبالمناسبة فإن وباء كورونا ليس الأول ولن يكون آخر ما يصيب العالم. لقد ظهرت الأوبئة في العالم القديم، وظهرت حتى في صدر الإسلام حيث يروى أن الرسول الأكرم قد علم الناس طريقة مواجهتها، إذ نقلت حتى صحيفة نيوزويك في الأسبوع الماضي حديثا عن الرسول الأعظم محمد يوصي الناس بألا يدخلوا منطقة أصابها وباء وألا يخرجوا منها إن هم كانوا فيها، أي إن الرسول الأكرم أوصى بما تفعله كل دول العالم اليوم، الحجر الصحي.
نعم {خُلق الإنسان هلوعا}، صدق رب العالمين، ولكن الارتزاق على نشر الهلع هو من خلق الإنسان نفسه، وغريب حقا أن المصائب تولّد هؤلاء في كل مكان وفي كل زمان. هذه هي الحال الآن مع فيروس كورونا أيضا. هناك ارتزاق متعدد الأشكال على نشر الهلع.
د. عمر ظاهر
كذلك ظهرت أوبئة في العصور الوسطى، وقتلت أعدادا هائلة من البشر. وفي العصر الحديث أيضا، تماما مثلما وقعت مصائب أخرى كالحروب، وكانهيار الدول والامبراطوريات، وما جرتها تلك الانهيارات من فواجع، وآلام، بل وقعت مصائب أكبر، منها إبادة شعوب بأكملها، كما حدث للهنود الحمر في أمريكا الشمالية، حيث تقدر أعداد الذين شملتهم الإبادة مئتي مليون إنسان.
نظرية المؤامرة والأخبار المفزعة
في كل مرة هناك مصيبة يكون هناك أيضا ما يضع الناس على المحك، فتظهر المعادن. يكون هناك تسونامي، أو وباء، أو كارثة من صنع الإنسان نفسه مثل الحصار على العراق الذي أودى بحياة ثلاثة ملايين إنسان خلال ثلاثة عشر عاما، ثم الحرب عليه التي خربت البلاد وسلمتها للفوضى والفساد، علينا أن نترقب فنسجل على الفور ظهور جماعات مختلفة، منهم من يروجون لنظرية المؤامرة، ومنهم من يبشرون بنهاية العالم واقتراب يوم القيامة، وآخرون يستولون على ما في الأسواق من مواد غذائية، ومواد صحية، وكمامات، وغيرها ويخزنونها، ليخرجوها فيما بعد، وليبيعوها بأسعار أغلى، مع أن هؤلاء قد يكونون ممن يروجون لظهور علامات يوم القيامة. ثم نسجل انضمام جوقة معاصرة ألعن من كل هؤلاء، يعيشون على خلق الذعر، والضرب على وتر المعلومات والأخبار المفزعة، نعني وسائل الإعلام، فهذه لا تستطيع التأقلم مع الكارثة، وتبقى استراتيجيتها جعل الخبر أكثر إثارة للمشاعر، خاصة مشاعر الخوف.
نعم {خُلق الإنسان هلوعا}، صدق رب العالمين، ولكن الارتزاق على نشر الهلع هو من خلق الإنسان نفسه، وغريب حقا أن المصائب تولّد هؤلاء في كل مكان وفي كل زمان. هذه هي الحال الآن مع فيروس كورونا أيضا. هناك ارتزاق متعدد الأشكال على نشر الهلع.
القول الفصل في الأوبئة
كل العقلاء يدركون أننا في هذه الأوقات ينفعنا أمران، أولا أن نصغي إلى من لهم القول الفصل، الأطباء وخبراء الصحة، وثانيا أن نرجع إلى التاريخ لنضع هذا الوباء في مكانه الصحيح في حياتنا. كثير من الناس لا يعرفون أن انتشار الأخبار عن تقدم المغول نحو بغداد وبلاد الشام قبل أكثر من سبعة قرون كان قد أطلق الذعر بين الناس بأخبار ظهور يأجوج ومأجوج وأن ما يقع هو أن القيامة قد قامت. لقد قتل المغول أكثر من مليوني إنسان في بغداد – وتغير مسار التاريخ، ولم تقم القيامة، ولم يكن المغول هم يأجوج ومأجوج.
وكثيرون لا يعرفون أن الوباء الذي ضرب فرنسا بعد ذلك بمئة عام ردّه بعض المغرضين إلى مؤامرة يهودية إسلامية للقضاء على الهوية المسيحية لفرنسا، وكان ذلك بداية كره اليهود في أوروبا والذي انتهى بالمحرقة الألمانية لهم في الحرب العالمية الثانية.
وغير ذلك حدثت أوبئة كثيرة في تاريخ البشرية، منها مثلا ما أطلق عليه الحمى الإسبانية عام 1918، والذي قتل أكثر من خمسين مليون إنسان. لا شك أبدا في أن هناك من استفاد من تلك المصائب، وأن هناك من روج لفكرة أن الله يعاقب ملة بعينها لاقترافها الذنوب، ومن روج يومها في أوروبا لاقتراب الساعة. تماما مثلما رأينا كيف أن التسونامي الذي ضرب تايلاند قبل سنوات أطلق يد عصابات شيطانية تعيش على سرقة الأطفال، وبيعهم في سوق النخاسة، ورأينا كيف نزل شيوخ العرب وأغنياؤهم نهشا في لحم الصبايا القاصرات اللواتي شردتهن الحرب الكارثية في سورية، بينما كان الدعاة الدجالون يروجون لظهور السفياني، وظهور فلان وفلان، وظهور علائم يوم القيامة.
بالتأكيد، فإن مدى الوباء الحالي أوسع بما لا يقاس عند المقارنة بغيره من الأوبئة السابقة في التاريخ؛ إنه وباء على مستوى العالم كله (جائحة كما يطلق عليه رسميا). وهذا مفهوم تماما في ظل حالة الانفتاح، أو ما يسمى العولمة، وسهولة انتقال الناس وبسرعة فائقة من مكان إلى آخر في كل ساعة. لهذافإن الصفة العالمية للعدوى لا غرابة فيها. ولكن، كما يقول الخبراء عن حق، فإن التطور العلمي والتكنولوجي اليوم يختلف عما كان في السابق، ومن هنا التفاؤل بإمكانية السيطرة على الوباء، وحصر عدد ضحاياه عند أدنى حد ممكن.
عالم غير الذي عرفناه
إن العالم الذي سيتمخض عنه الوباء بعد أسابيع أو ربما أشهر من الآن لن يكون، طبعا، نفس العالم الذي كنا نعيش فيه في سنة 2019، فقد تتغير الخارطة السياسية على الأرض، وستتغير الأنماط الاقتصادية حتما، وسوف تتغير نظرة الناس إلى أمور كثيرة، وتتغير الثقافات، وتتغير أطر الحياة. ولكن هذا ليس، بالتأكيد، عقابا من الله لبعض الناس دون غيرهم، لأنهم يأكلون كذا، ولا يأكلون كذا. إنه عقاب لنا جميعا، ليس من الله، بل مما كسبت أيدي الناس من إفساد في البر والبحر. سببه، من بين أمور كثيرة، أن ميزانيات التسلح في العالم تفوق آلاف المرات الميزانيات المخصصة للصحة، والتعليم، وللحفاظ على البيئة.
العالم سيكون غير الذي عرفناه حتى الآن، نعم، ولكن المهم الآن أن نتعاون، ونتكاتف في مواجهة الوباء، ونتبع ما يوصي به العلماء والخبراء.
نحن هنا في الدنمارك محظوظون، ومدينون لأجيال عديدة من الدنماركيين الذين كافحوا بكل قوتهم حتى ضمنوا للشعب، من بين أمور كثيرة، نظاما صحيا ليس فقط من أفضل ما يوجد في العالم، بل وأيضا لأنه نظام مجاني وللجميع، فلا يميز بين مواطن وآخر، بينما نعرف أن كثيرا من البلدان، منها العربية والأفريقية، بل وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، تفتقر إلى مثل هذا النظام، مع أنها صاحبة أكبر ميزانيات التسلح.
عندما يتجاوز العالم هذه المحنة، سيكون هناك من ماتوا، ومن فقدوا أشخاصا عزيزين عليهم، ويكون هناك من أفلس، وخسر تجارته، ويكون هناك من اغتنى وكسب المال الحرام، ويكون هناك من أشبع حقده على الأمم الأخرى باتهامهم بأنهم هم من جلب غضب الله علينا. وسيكون هناك من قدم للبشرية خدمات كبيرة، وأسهم في إنقاذ أرواح كثيرة، وهم لا يريدون منا جزاءً ولا شكورا – العاملون في القطاعات الصحية. لنقدم إليهم جميعا مشاعر التقدير والاحترام.