كنود هولمبو.. شهيد الكلمة الباحث عن الحقيقة
كشهاب لمع وحيداً فى ظلمة السماء الحالكة مضيئاً ما حوله فى لحظة تأوجه وتلاشيه السريع، وكطلقة نارية شردت فى ليل الظلم البهيم، كانت حياة الشاعر والصحافى والثائر والرحالة الدنماركى كنوذ هولمبو القصيرة والذى لم تكن الحياة كريمة معه بحيث تفسح له المجال كي يعطى إذا لم يكن كل ما لديه فعلى الأقل معظمه فقيمة الإنسان هى ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته.
ولد كنوذ فالديمار هولمبو الأخ الأكبر لثلاثة أشقاء فى الثانى والعشرين من نيسان عام 1902 فى مدينة Horsens الدنماركية لعائلة ميسورة تمتهن التجارة ومنذ سنوات طفولته المبكرة ظهرت عليه ملامح النبوغ والذكاء والإستقلالية وحب المغامرة وإحساس قوى بالعدالة جعله دائم الوقوف إلى جانب المظلومين والمضطهدين.
نبوغه المبكر وشغفه
هذا الرجل الذي جاء من أقاصى الشمال إلى الشرق فى فترة من أصعب وأدق الفترات التى مرت على المنطقة العربية مستكشفاً فأصبح هو الإكتشاف نفسه ذو الشخصية النبيلة والفطرة الإنسانية السليمة الذى أعطى كثيراً فى حياته وكان الإيثار أحد الصفات المميزة له بما بذله من دفاع عن المبادىء الإنسانية وتخليد إنسانية الإنسان ضد المحتل والظلم والطغاة وتحدى القوى الإستعمارية فى عشرينيات القرن الماضي بقلمه وكلمته وأثبت قيمة الكلمة وكيف أنها صانعة تاريخ وشاهد عيان تبقى مهما تغيرت الأحوال أو تبدلت الأيام. وفى مراهقته المبكرة أبدى اهتماماً بدراسة الفلسفة والأديان ونظم الشعر وأهلته مواهبه للعمل مع عدة صحف محلية في الدنمارك.
وأثناء إحتدام ثورة الريف فى الشمال المغربى سافر كنوذ في عام 1924 إلى المغرب فى مهمة صحفية لتغطية الأحداث ثم عاد للدنمارك ونشر كتابه الأول عن هذه الرحلة تحت عنوان (بين الشيطان والبحر العميق- رحلة بالطائرة للمغرب المضطرب).
اللقاء الأول مع المسلمين
وفي العام 1925 غادر الدنمارك مرة أخرى إلى دول البلقان والعراق وفلسطين وشاهد ما فعله الإستعمار من تقسيم وإعادة تشكيل للمنطقة والقلاقل والإضطرابات التى رافقت ذلك، وفى مدينة القدس بدأ إهتمامه بالدين الإسلامىي، حيث شرح هذا الإهتمام في مقالة نشرها في حينه قائلا:” كنت أسير مشوش الفكر تائه الخطى حزين ومحبط بسبب الخلاف الذى نشأ بين القساوسة اليونان والرومان وفجأة وجدت نفسى أمام المسجد العمري، دخلت المسجد كان كل شيء هادئاً وصامتاً،جلست أراقب المصلين وهم يتركون أحذيتهم خارجاً ويجثون على ركبهم وجباههم على الأرض فى اتجاه مكة يصلون فى سكينة حيث لا صور على الجدران ولا أصوات للموسيقى،هنا تكون وحدك فى إتصال مع خالقك.”
“لن يعرف أحد فى أوروبا ما يحدث هنا وطالما أن هذا سيعمل على نصر الفاشية فلا أحد يهتم بالوسيلة التى يتحقق بها ذلك،إن كل ما يشاع فى أوروبا من أن العرب متعطشين للدماء يهاجمون الإيطاليين المسالمين ليس من الحقيقة فى شىء، إننى الوحيد الذى يعرف من هم البرابرة الحقيقيون ولن يهتم أن ينقرض أحد الشعوب المتأخرة مادام ذلك يستطيع أن ينقذ أوروبا من موسولينى.”
كنود هولمبو
ومع حلول العام 1928 عاد إلى المغرب مع زوجته نورا وابنته عائشة وكانت ثورة الريف قد أخمدت وتم نفى قائدها عبد الكريم الخطابى فاستقر فى مدينة سبتة وهناك أعلن عن دخوله فى الإسلام، وولد للمرة الثانية وأتخذ له إسماً عربياً (على أحمد غسيرى) وبدأ فى تعلم اللغة العربية التى أتقنها فيما بعد وفى أثناء هذه الفترة عمل مدرساً وسائق حافلة ثم عزم فى عام 1930 على أداء مناسك الحج وبسبب غريزته الصحفية ورغبته فى استكشاف الصحراء والتعرف عن قرب على أحوال السكان تحت الإحتلال قرر القيام بالرحلة عن طريق البر فإستقل سيارته ليكون أول صحافي أوروبي يقطع بر الشمال الإفريقى وواصل رحلته حتى وصل ليبيا التى كانت تحت الإحتلال الإيطالى والتى حازت على النصيب الأكبر فى كتاباته ومذكراته.
شاهد على الفاشية الإيطالية في ليبيا
حين وصل كنوذ إلى ليبيا كانت تحت الإحتلال الإيطالى نتيجة فكر فاشيستى مريض ومتطرف فى وحشيته بقيادة موسولينى الذى كانت ترواده أوهام إعادة إحياء إمبراطورية روما القديمة واعتبار ليبيا الشاطيء الرابع لإيطاليا وكانت حركة المقاومة والجهاد الليبى على أشدها يقابلها حملة أشد قمعاً وشراسة من السلطات الإيطالية بقيادة السفاح غرازيانى وهناك شاهد كنوذ الحقائق المروعة التى ترتكب فى حق السكان ودونها في كتابه بالقول:” لن يعرف أحد فى أوروبا ما يحدث هنا وطالما أن هذا سيعمل على نصر الفاشية فلا أحد يهتم بالوسيلة التى يتحقق بها ذلك،إن كل ما يشاع فى أوروبا من أن العرب متعطشين للدماء يهاجمون الإيطاليين المسالمين ليس من الحقيقة فى شىء، إننى الوحيد الذى يعرف من هم البرابرة الحقيقيون ولن يهتم أن ينقرض أحد الشعوب المتأخرة مادام ذلك يستطيع أن ينقذ أوروبا من موسولينى.”
حيث شاهد عمليات القتل الوحشى والإعدامات الجماعية العلنية ونفى أعداد كبيرة من السكان إلى الجزر الإيطالية النائية فى محاولة لتفريغ الأرض من سكانها وإحلال المستوطنين الإيطاليين بدلاً منهم واستعمال الغازات السامة وردم آبار المياه الصالحة للشرب كما شاهد معسكرات الإعتقال الجماعية التى ابتدعها الإيطاليون الفاشيست .
قلمه في خدمة المظلومين
ووصف كنود في مقالة له مشهد إعدام مروع لعدة أشخاص على يد الإيطاليين بهذه الكلمات:” أحضروا البدويين ، كانا نحيلى الجسم يبدو عليهما البؤس الشديد وكانا مقيدين بالسلاسل، لم يبدُ عليهما أى خوف من الموت، لقد كانا متماسكين تماماً وعندما وقفا أسفل المشانق أخرج أحد الضباط ورقة مكتوبة وأخذ يقرأ صحيفة الإتهام : نظراً لخروجكما عن النظام واشتراككما فى التمرد قررت المحكمة إعدامكما شنقاً،قرعت الطبول تصافح الرجلان فى هدوء واتجها كل إلى مشنقته، والتفت الحبال حول إعناقهما، لم يبديا أى نوع من المقاومة وسرعان ما تدلت جثتاهما ولم نر سوى بعض التشنجات ثم انتهى الأمر، وقف أحد الجنود الإيطاليين يشاهد عملية الإعدام وهو يدخن سيجارته قائلاً: لا روح فى هؤلاء البدو، هؤلاء الكلاب لم يأبهوا للموت!! “
تنقل كنوذ على طول المدن الساحلية الليبية من زوارة إلى مصراتة وسرت وحتى برقة (المنطقة الشرقية من ليبيا) وضل الطريق فى الصحراء عدة مرات مشرفاً على الموت وشاهد وسمع من السكان الكثير عن المآسى والفظاعات التى يرتكبها الفاشيون وسط تعتيم وصمت كامل من المجتمع الدولي مما ولد لديه شعوربالمرارة والغضب وفى الطريق من بنغازى إلى درنة ضل طريقه ووقع فى أسر مجموعة من المجاهدين تحت إمرة عمر المختار الذين ظنوه عميلاً إيطالياً فى البداية وأطلقوا عليه الرصاص ولكنه أقنعهم بأنه ليس إيطالى وأنه صحفى دنماركى مسلم جاء لنقل الحقيقة بعد أن قرأ لهم بعض الآيات القرآنية وبقى معهم فترة يستمع منهم ويوثق كل ما يقال وكانت هذه المقابلة من المقابلات الصحفية النادرة التى أجريت مباشرة مع المجاهدين من قبل الصحافة الأوروبية.
ووصف كنوذ هذا في كتابه بهذه العبارات:” كانت الليلة شبه مظلمة وأخذت النار تخفت فعرضت على القائد إحدى البطانيتين حتى يلتحف بها فاعتذرعن قبولها أما البقية فقد افترشوا الأرض وراحوا فى سبات عميق، تدثرت بالبطانيتين ونمت نوماً عميقاً وفى الصباح استيقظت قبل الآخرين، نظرت إليهم وهم فى نومهم، كانت ملابسهم رثة ولكن علت وجوههم وهم نائمون نظرات السلام والتصميم على النصر، لقد أدركت الآن لماذا كان هؤلاء الرجال على استعداد للموت دون أن يهتز لهم جفن، لقد لاحظت مدى تمسكهم بدينهم واعتصامهم بحبل الله، لم يخطر ببال أحدهم أن يضيق بما قسمه الله له مهما كان مصيرهم فقد كانوا يحمدون الله وهم تحت أعواد المشانق على نعمة الحياة التى وهبها إياهم ويتحملون أى معاناة، كان هؤلاء الرجال النائمون فقراء وأميون فلم يعرفوا القراءة بل كانوا يكتبون أسماءهم بصعوبة ولكنهم كانوا بالنسبة لي من أنبل ما رأيت من البشر.”
سجن وترحيل
بعد أن وصل الصحافي الدنماركي إلى مدينة درنة كانت الأوضاع تزداد سوءاً وحملات القمع والإعدامات تتزايد بشكل رهيب، ثلاثون حالة إعدام تتم يومياً مما يعنى إعدام 12.000 شخص سنوياً ولم تحتمل السلطات الإيطالية إتصالات كنوذ بالمواطنين المحليين ومراسلاته وكتاباته وتخطيطه للذهاب إلى أقصى الجنوب الليبى وبالتحديد واحة الكفرة آخر معقل للمجاهدين الليبيين فاعتقلته بتهمة التجسس. وداخل السجن شاهد العشرات من المجاهدين الذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام والمعاملة الغير إنسانية التى يتلقونها كما إلتقى بأفراد من العائلة السنوسية، حتى تم الإفراج عنه ومنعه من إكمال رحلته وترحيله عن طريق البحر إلى مصر.
“أغمض كنوذ عينيه للمرة الأخيرة دون أن يحقق رغبته فى أداء فريضة الحج ورحل عن عالمنا قبل أن يتجاوز التاسعة والعشرين ربيعاً ومضى حتى النهاية نصيراً للضعفاء والمظلومين لا يخشى أن يفعل ما يرى أنه الصواب مهما كلفه الأمر. ”
هشام عمار
وصل كنوذ إلى الإسكندرية وقام فور وصوله بالإتصال بالملك إدريس السنوسى ملك ليبيا فى المنفى وأطلعه على الوضع وما يحدث فى ليبيا ثم ذهب للقاهرة لمقابلة النحاس باشا طالباً المساعدة وأخذ فى حشد الدعم وقيادة حملات فى الصحف لفضح ما تقوم به إيطاليا وحث المواطنين على تقديم كل أشكال الدعم ثم بدأ فى التجهيز لقافلة إمدادات تحمل المؤن والسلاح للعبور بها برياً عن طريق الصحراء وكسر الحصار المفروض على الكفرة وعندما علم السفير الإيطالى فى القاهرة بما يخطط له قام بالضغط على السلطات الإنجليزية والحكومة المصرية فقامت بإعتقاله وزجه فى السجن لرغبتها بعدم إغضاب السلطات الإيطالية وبعد إنقضاء شهر قامت بالإفراج عنه وترحيله إلى بلده الدنمارك، وشرح كنوذ رغبته في دعم المحاصرين في مدينة الكفرة قائلاً:” أنا فى طريقى إلى الكفرة، الإيطاليون يحاولون نقل جنودهم إلى هناك وإذا نجحوا فى ذلك فإنهم سيقتلون نصف السكان أعتقد أنه بوسعى فعل شىء ومن الأفضل أن أموت فى سبيل غاية مشرفة بدلاً من العيش فى العار.”
كتابه الأشهر
وصل كنوذ إلى الدنمارك ومكث فيها ثمانية أشهرلم ييأس فيها وقام بنشرما شاهده فى الصحف الدنماركية وأخذ يلقى الخطب فى التجمعات عن وحشية المحتلين الفاشيين ثم قام بإصدار كتابه الشهير تحت عنوان:” الصحراء تحترق” الذى انتشر سريعاً فى الدنمارك ودول أوروبا والولايات المتحدة مما جعل الضمير العالمى يهتز أمام هذه الحقائق التى أزاح عنها الستار هذا الصحفى الشاب لأول مرة بالأدلة الدامغة مسبباً إحراجاً كبيراً لإيطاليا ومسقطاً آلتها الدعائية للمرة الأولى.
في الطريق إلى مكة
فى عام 1931 أعاد كنوذ محاولة أداء فريضة الحج فسافر مرة أخرى لتركيا ثم سوريا ثم الأردن ثم توجه للقدس لمقابلة مفتى فلسطين الحاج أمين الحسينى ثم عاد للأردن والتقى الأمير عبد الله ثم غادر عمان ووصل للعقبة فى الثالث من أكتوبر ثم استقل جملاً ودخل الأراضى الحجازية ووصل إلى مدينة حقل ثم قرية الخريبة الساحلية وهناك اختفت آثاره للأبد وتضاربت الروايات حول إختفاءه ولكن الرواية الأكثر تداولاً هى أنه تعرض فى منطقة خريبة للإعتداء من قبل بعض الأشخاص الذين جندتهم المخابرات الإيطالية فحاول الهرب منهم بإتجاه البحر وسبح عدة مئات من الأمتار ليصل إلى منطقة أخرى من الشاطيء منهكاً وظمآناً حيث شاهدته إمرأة بدوية فطلب منها بعض الماء فوعدته بالعودة إليه ببعض من حليب الإبل وأثناء فترة إنتظاره عاد إليه نفس الأشخاص فقتلوه وأخفوا جثته ومنذ ذلك الحين لم يعثر له على جثة أو قبر.
أغمض كنوذ عينيه للمرة الأخيرة دون أن يحقق رغبته فى أداء فريضة الحج ورحل عن عالمنا قبل أن يتجاوز التاسعة والعشرين ربيعاً ومضى حتى النهاية نصيراً للضعفاء والمظلومين لا يخشى أن يفعل ما يرى أنه الصواب مهما كلفه الأمر.
رحل كنوذ كغيمة ربيع تاركاً بعض الكتب التى ألفها والمقالات التى نشرها فى صحيفة البوليتكن ومدرسة وميداناً يحملان إسمه فى الدنمارك وصورة مكبرة له بالزى العربى تحتل مدخل المتحف القومى فى مدينة طرابلس الغرب بعينيه الواسعتين المليئتين بالتحدي والتى ربما تحملان نوعاً من عتاب ما!
رحم الله كنوذ هولمبو أو على أحمد غسيرى الذى خرج ينشد الحقيقة فمات من أجلها والذي انطبق عليه قول الشاعر:
الرأىُ قبل شجاعة الشجعان : هى أولٌ وهى المحل الثانى
فإذا هما اجتمعا لنفس حرةٍ : بلغت من العلياء كل مكانِ