وداعا .. عندليب الدنمارك
لا لومَ إذ تنضح كلماتنا حزنا، وتقطر عباراتنا دموعا عند ذكر يحيى حسن، فنحن في حضرة حدث صادم نكاد نأبى أن نصدقه، وإن علا صوت في أعماقنا يردد بلا توقف {كل نفس ذائقة الموت}. سبحان من جعلنا نجزع من الموت كلما وقع، وكلما سمعنا به، ولكن من يمكنه أن يدعي أن الجزع ليس درجات، وأن الحزن هو نفس ما يشعر به الإنسان كل مرة؟ أبدا، فبعض الحزن كأنه البحر يجد المرء نفسه كمن وقع في لجة أمواجه، تتقاذفه في أبدية لا ضفاف لها.
هذا هو حزني على العندليب الذي غرد لوقت قصير، ثم طار فارتقى في طيرانه، حتى غاب بين الغيوم، وراح يتطلع نحو النجوم في ملكوت السماء. وإذ أجلس وأتأمل السنوات السبع التي مر خلالها اسم يحيى حسن على مسامعي، فإني لا أذكر إلا الحزن، عرفته بحزن، واستمعت إليه بحزن، وصمتَ هدير عباراته في أذني بحزن، وها أنا ذا أشعر بحزن عميق عمق البحر على انطفاء جذوة الحياة فيه وهو في ريعان الشباب .. الفتى الذي لا يناسبه لقب غير العندليب الأسمر.
نسرا يطير بجناحي عصفور
لم أحاول لحظة واحدة أن أقيّم شاعريته، أو فنه وأسلوبه، أو تمكنه من اللغة التي اختار، أو بالأحرى قدّر له، أن يكتب فيها، وهو لم ينهل منها إلا القليل القليل. لم يأسرني فيما كان يقوله غير عنفوان التمرد، وعمق المعاناة، والبراءة التي يعاني من وطأتها وهو يخوض غمار تجربة لا يعرف أبعادها، ولا يدرك سر القدر الذي جاء يبحث عنه ليجعل منه في غمضة عين نسرا يحلق في الأجواء. تمنيت لو أن أحدهم منحه أجنحة قوية تعينه على الطيران الآمن في الأنواء التي كانت تنتظره. وحزنت كل مرة وأنا أرى نسرا يطير بجناحي عصفور، ويخترق الأجواء العاصفة، ويواجه الرعد والبرق، والأعاصير. وكنت أحزن لأني قد أكون آخر من يمكنه أن يقترب منه، أو يدخل عالمه، ويكبح جماحه، فقد خبرتُ أن لكل كلمة ينطق بها اللسان ثمنا تدفعه الروح. عرفته عن بعد كما أعرف نفسي عن قرب.
إنه متمرد على من يتخذون من الجهل بالدين غطاء لتسلطهم؛ وهو متمرد على من نصبوا أنفسهم جلادين باسم لله الذي لا تنفعه الطاعة ولا يضره العصيان، وهو غفور رحيم؛ وهو متمرد على من لا يحملون أخلاق الأنبياء،
د. عمر ظاهر
لم يكن لي اعتراض على ما كان يصوغه العندليب في فورات الغضب، فقد كان صادقا في شعوره، وفي ثورته، وشفافا إلى حد أن من ينظر إليه يستطيع أن يرى الجهة الأخرى من العالم من خلاله. كنت أحزن لأني كنت أعرف أن يحيى سيأتيه يوم – ربما بعد أن يتجاوز الأربعين من عمره، فيقول ألف كلمة جميلة كي يخفف بها وقع كلمة باهتة قالها وهو فتى في الثامنة عشرة. ولكن، كنت أريد أن أقول للناس دعوه الآن يقول ما يريد، لا تكمموا فمه! دعوه يصرخ، وينفّس عن ألمه. دعوه يكشف الزيف. يحيى حسن ليس عدوا لا لدين، ولا لإله، ولا لنبي. من يمكنه أن يكون عدوا لهؤلاء؟ إنما هو يبث إلى الله شكواه من عالم يعرف كل شيء إلا طعم العدالة. إنه متمرد على من يتخذون من الجهل بالدين غطاء لتسلطهم؛ وهو متمرد على من نصبوا أنفسهم جلادين باسم لله الذي لا تنفعه الطاعة ولا يضره العصيان، وهو غفور رحيم؛ وهو متمرد على من لا يحملون أخلاق الأنبياء، وإن تلفعوا بعباءة حبهم للأنبياء؛ وإنه متمرد على المخلوقين لا على الخالق. كيف يمكن أن أحاسب طفلا على طريقة صياغته لعالمه؟ كيف أحكم على طفل لم يكتمل نموه العقلي، والنفسي بعد؟ ألا يشعر الواحد منا وهو في السبعين أنه كان غير ناضج حين كان في الستين، كما كان غضا غريرا وهو في العشرين؟ أنا أحببت اندفاعه، وتمرده، لكني لم أتخلص من حزني وأنا أرى العندليب الذي أولى به أن يتعلم الشدو الجميل، ويحب النغمات الجميلة، ويطير من غصن إلى غصن، ومن زهرة إلى أخرى، يُدفع دفعا إلى تقمص دور النسر الكاسر، ولا يدري أنه إنما يطير بجناحي عصفور، ويمكن إنزاله من عليائه بسهولة.
شموخ الفلسطيني في أبهى صور
حزنت لأن يحيى هو واحد فقط من آلاف العنادل الذين تكمم أفواههم هناك حيث ينبغي لهم أن يشدوا ويغردوا، ويصنعوا الشعر، والفكر، والثقافة، ثم يُفسح لهم في المجال في المكان الخطأ، فيُساء فهمهم. ما أشد حزني على من يُساء فهمه من أهله، ومن الغرباء على حد السواء! ليس فقط بعض من أهل العندليب والأقربين إليه ظنوا أنه قال كفرا، بل وإنّ من أوهموه بألف شيء، أساءوا فهمه، وتوهموا هم أيضا، وظنوا أنه كفر كفرا يُثلج صدورهم المفعمة بالظلام.
كنت أحزن وأنا أرى العندليب الأسمر يقف بشموخ الفلسطيني في أبهى صور تمرده مجدا، وأشد ألوان انتفاضته ألقا، ويلقي شعرا يقطع له الناس أنفاسهم، وترقص به قلوب الفتيات، ويسيل له لعاب الإعلام لأني كنت أكاد أرى الغيرة في النفوس الضعيفة تصل حدا قد يجعل الفتى طعما للنار. وكنت أتوجس خيفة ممن يراهنون على عنفوانه، وحدّة كلماته، ويحسبون أن يحيى حسن قد أحرق السفن من ورائه، وصار أسيرا للشهرة والأضواء، وأنه يمكن أن ينزل إلى الحضيض الذي نزل إليه غيره من هواة المكانة الفارغة من الكرامة.
لم يكن العندليب الأسمر يجيد الصمت حيث يتحول الصمت إلى تيار نفاث من الهواء الرافع تحت جناحيه؛ ولم يكن يجيد قول الكذب الذي تطرب له آذان أساطين صناعة النجوم؛ لم يكن يجيد إلا قول الحقيقة عن أبيه، وأمه، والمسلمين، واللاجئين، وعن الصهاينة وتجار الدم أيضا.
د. عمر ظاهر
هل يتمرد الإنسان على أبٍ لمجرد أنه قاس، وعلى بيئة ظالمة لوحدها، وعلى ثقافة معينة جائرة. كلا، ثم كلا. يتمرد الإنسان لأن في أعماقه قوة خير جبارة ترفض الانصياع لما يريده المتجبرون في العالم، فيتمرد على كل قسوة، وعلى كل ظالم، وعلى كل جائر. رأيت كيف لمع الغضب في أعينهم ساعة عاد يحيى حسن من زيارة إلى غزة، فتحدث بكلمات من نار عن ظلم المستوطنين الصهاينة للفلسطينيين، ورأيت الحمق يتصاعد على جبينهم حتى يطل من سمت رؤوسهم ساعة ظهر يحيى حسن على الشاشة وهو يقول بملء فمه أن ليبيا كانت في ظل القذافي أفضل حالا مما هي عليها الآن، بعد أن دمروها من أجل البترول بحجة الخلاص من دكتاتور مستبد. كم فلسطينيا، أو عربيا، أو مسلما، أو مسيحيا يجرؤ على أن يفجر ينابيع النقاء مثل هذا العندليب الأسمر وهو يرى الشهرة تفتح له ذراعيها لتغمره في الغنى والمتع، شريطة أن لا يقرب من ينابيع الحقيقة النقية؟ انظروا إلى أعداد من يأكلون السحت، وينهشون لحم بني جلدتهم مقابل فتات الطغاة، لتعرفوا أي إنسان نبيل كان يحيى حسن.
لم يكن العندليب الأسمر يجيد الصمت حيث يتحول الصمت إلى تيار نفاث من الهواء الرافع تحت جناحيه؛ ولم يكن يجيد قول الكذب الذي تطرب له آذان أساطين صناعة النجوم؛ لم يكن يجيد إلا قول الحقيقة عن أبيه، وأمه، والمسلمين، واللاجئين، وعن الصهاينة وتجار الدم أيضا. قلت في نفسي وأنا أمسك أنفاسي خوفا على العندليب الذي صوروه لنفسه نسرا فراح يطير في الأعالي، ويحسب أن كل ما يقوله سيقع على المسامع مثل شعره المفعم بالتمرد المرغوب فيه: “انزل على مهلك أيها العندليب قبل أن تخونك جناحاك. إنهم سيدركون أنك ما تزال فتى تضطرم نار فلسطين في أعماقه، وأنها أكذوبة أن تكون قد أحرقتَ السفن”.
قدره أن يكون من أطفال الحجارة
رأيت كيف أطلِقت النيران من كل حدب وصوب نحو السماء، وكلها تتوجه نحو النسر الطائر بجناحي عصفور، حتى عدّوا له في كيانه ساعة السقوط أكثر من أربعين جرحا، فلم يعد يصلح للطيران، ولم يعد يستحق منهم إلا عيشة كسيرةً في قفص.
واليوم أنا حزين لأنهم أعلنوا موت العندليب الأسمر، وخمود شدوه إلى الأبد. مات يحيى حسن بالأمس القريب؟ لا، العندليب أصيب من وقت طويل، من يوم خانته جناحاه فسقط من الأعالي. أنا رثيته يومها، ووضعته في مصاف الشهداء من أطفال الحجارة، وقلت له “يا يحيى .. أنت قدرك أن تكون من أطفال الحجارة. أنت سقطتَ من حيث ما كان عليك أن ترتقي. أردتَ أن تكون حجارتك التي ترميها من هناك من سجيل، ونسيتَ أنك لست من الطير الأبابيل. ولكنك انتصرت. انتصرتَ ثائرا، فأنت لم تُخلق للنفاق والتملق، وانتصرتَ ليس لأنك نظمت الشعر في لغة لا يجيدها أقرانك، بل لأنك قلتَ كلمة حق، بل كلمات حق، في حضرة عالَم جائر.”
أنا حزين عليك أيها العندليب الأسمر، لكني سوف أمحي مرثيتك، فأنت لا ينبغي لأحد أن يكتب فيك رثاء، بل تستحق أن تُكتب فيك قصائد الفخر. سقطتَ وعلى لسانك كلمة حق، مثلما سقط أطفال غيرك وفي أيديهم حجارة.
طر أيها العندليب، واشدو بألحانك في رحاب السماوات عند رب رحيم.