سعر الانسان في حسابات كورونا
ماهي التكلفة المالية القصوى التي يمكن للمجتمع أن يدفعها مقابل إنقاذ حياة واحدة من الموت بسبب فايروس كورونا؟ بعبارة أخرى كم هو المبلغ الكلي الذي تستطيع الدولة ان تدفعه مقابل نجاة شخص واحد من الوباء.
يبدو هذا السؤال، للوهلة الأولى، غريبا وربما غير واقعي. فحياة الانسان لا يمكن تقييمها بالمال، على الأقل من الناحية الأخلاقية. لكن هذا السؤال كان في الواقع ومازال أحد أهم الاسئلة التي تداولتها الكثير من الحكومات ومؤسسات التخطيط والمشورة في العالم، وهي تختار الخطة المناسبة التي تواجه بها وباء كورونا.
التكلفة والفائدة
نحن نعرف أن حكومات الدول التي أصيبت بالوباء قد اتبعت خططا مختلفة في توقيتها وفي شدتها لمواجهته، فبعضها اتخذت إجراءات عاجلة وصارمة منذ البداية، وبعضها الآخر انتظرت عدة أسابيع قبل أن تتخذ إجراءات مماثلة، وهناك بعض الحكومات لم تتخذ إلاّ القليل من الإجراءات وراهنت على ما أسموه بمناعة القطيع. وأياً كانت الخطة التي اتبعتها هذه الحكومة أم تلك فإن معادلة التكلفة/الفائدة كانت حاضرة بقوة ولعبت دورا حاسما في عملية المفاضلة والاختيار. ما قصة هذه المعادلة؟ وكيف تم استخدامها في رسم الخطط الحكومية لمواجهة وباء كورونا؟
في عالم المال والأعمال يحسب المستثمر خسائره وأرباحه عندما يخطط لمشروع معين، وذلك استنادا إلى تحليل التكلفة/ الفائدة، وعلى هذا الأساس يتخذ قراره النهائي، ويتوقع جدوى المشروع أو عدمها. فاذا كانت التكلفة أكبر من الفائدة المتوقعة، خلال مدة معينة، فالمشروع غير مجدٍ والعكس بالعكس. أما في عالم الدول فأغلب الحكومات تستخدم هذا التحليل في جميع مشاريعها وخططها، وإلا فإنها تتخبط ولا تخطط.
المال مقابل الصحة
وليست الفائدة، في حسابات الدول، مالية دائما، ففي مجالات عديدة تكون حياة الناس أو سلامتهم أو صحتهم أو سعادتهم أو أمنهم هي الفائدة التي تجنيها الدول من مشاريعها المكلفة. وهذا ما جرى خلال أزمة وباء كورونا الحالية. فالاختلاف الأساسي بين الاستراتيجيات التي اتخذتها الدول في مواجهة وباء كورونا انحصر الى حد كبير في ميداني الصحة والاقتصاد. صحيح أن الهدف النهائي هو تقليل الخسائر البشرية وكسر سلسلة العدوى. إلا أن أي قرار اتخذته الحكومات، وأي إجراء نفذته في إطار مكافحتها للوباء، ترك عواقب اقتصادية واجتماعية تتراوح في شدتها وتعقيدها حسب شدة وتعقيد ذلك الإجراء. وفي مواجهة تلك العواقب التي طالت ملايين الناس قامت الكثير من الدول بمبادرات مالية كبيرة للتخفيف عن كاهل المتضررين. وهذا ما زاد من التكلفة الاجمالية لمواجهة الوباء في هذه الدول.
وقد اختلفت التكلفة المالية من بلد الى آخر تبعاً لاختلاف نوع الاجراءات التي اتخذتها الحكومات ودرجة شدتها وحجم المبادرات المالية التي قامت بها لمساعدة المجتمع والاقتصاد. فقد اتخذت دول كثيرة إجراءات قاسية مثل منع التجول وإغلاق المدن وغيرها، لكن حكومات تلك الدول لم تقدم أية مبادرات مالية لمساعدة الناس والمهن والشركات المتضررة. وتركت شعوبها تواجه العواقب بدون دعم حكومي يذكر. كما هو الحال في الكثير من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، وآسيا، حيث زاد الفقراء فقراً، واشتدت الأزمات الاقتصادية الموجودة أصلا قبل وباء فايروس كورونا.
إجراءات مكلفة ولكن مثمرة
أما في الدنمارك، وكما في معظم الدول الاوروبية، اتخذت الحكومة والبرلمان قرارات وإجراءات وقوانين كثيرة وغير مسبوقة، منها إغلاق الحدود ومنع التجمعات وإغلاق مجمعات التسوق والمقاهي والمطاعم والكثير من المراكز العلاجية والمهن الحرة، وإلغاء جميع النشاطات الجماهيرية. وكان لهذه الاجراءات تبعات اقتصادية واجتماعية سريعة، منها مثلا ارتفاع معدلات البطالة على شكل قفزات كبرى غير مسبوقة، وتدهور الانتاج الكلي. وهذا الواقع الجديد والكارثي دفع الحكومة والبرلمان الى القيام بمبادرات مالية مكلفة للحد من البطالة والافلاس والتدهور الاقتصادي، بلغت مئات المليارات من الكرونات الدنماركية. فهل راعت الحكومة الدنماركية تحليل التكلفة/الفائدة في تقديرها للعواقب والكلف الاقتصادية الباهظة التي ترتبت على الإجراءات والمبادرات سابقة الذكر؟
يمكن اعتبار التكلفة هنا كل ما خسره اقتصاد الدولة من أموال ووظائف وفرص تنموية بسبب هذا الوباء، اما الفائدة فهي تعني كل الارواح التي تم انقاذها والتي كان من المؤكد خسارتها لو لم تتخذ الدولة إجراءاتها المذكورة ضد الوباء.
34 مليون مقابل حياة واحدة
في قراءة مهمة نشرتها الرئاسة الرباعية للمجلس الاقتصادي في الثلاثين من مارس/آذار الماضي، ورد التساؤل التالي:
هل تستحق الأرواح المنقذة كل هذه التكلفة المالية؟ وجاء الجواب كما يلي:
حسب تعليمات وزارة المالية، تبلغ الكلفة الاجمالية لتجنب وفاة واحدة حوالي 34 مليون كرونة. فإذا كان المشروع أو الاجراء المتخذ من قبل الدولة يكلف أقل من 34 مليون كرونة، لكل حالة وفاة تم تجنبها، يشير تحليل التكلفة/الفائدة إلى أنه يجب منحها الأولوية وإلا فلا…
ولكي نفهم هذا الرقم الذي تم تحديده من قبل وزارة المالية استنادا الى مؤشرات وعوامل كثيرة لا مجال للخوض فيها، لابد من العودة الى توقعات منظمة الصحة العالمية WHO. فقد قدرت المنظمة نسبة الوفيات المتوقعة الى مجموع السكان بين 0٫3 % و 1 % وذلك حسب شدة وشمولية وتوقيت الاجراءات المتخذة من قبل الدولة. وهذا يعني في الدنمارك وفاة ما بين 1700 الى 5800 مواطن دنماركي. لكن الاجراءات التي اتخذتها الحكومة الدنماركية خفضت كثيرا من هذا الرقم. فعدد المتوفين المسجلين بسبب فايروس كورونا وصل حتى اليوم (8/ 5) الى 522، وإذا أخدنا بتقديرات WHO سالفة الذكر، فهذا يعني أن الاجراءات المكلفة التي اتخذتها الحكومة قد أدت الى تفادي وفاة أكثر من 5000 شخصا حتى الآن. وإذا ضربنا هذا الرقم بالكلفة القصوى لتفادي وفاة واحدة، وهو 34 مليون كرون، تصبح الكلفة الكلية المسموح بها حوالي 170 مليار كرون. أي أن عملية مواجهة الوباء تصبح مربحة اقتصاديا أيضا، إذا لم تتجاوز كلفة جميع الاجراءات والمبادرات المالية والخسائر الاقتصادية الرقم المذكور. وحسب هذه الحقائق تعتقد الحكومة الدنماركية اليوم أن كل ما قامت به من إجراءات مكلفة جداً كان ضرورياً ومحسوباً ومربحاً أيضا من وجهة نظر اقتصادية مستندة الى تحليل الكلفة/ الفائدة آنف الذكر.
هذا طبعاً يذكرنا بدولة السويد التي لم تتخذ إلّا القليل من الإجراءات غير المكلفة. فهل جازفت السويد بصحة مواطنيها لكي توفر التبعات الاقتصادية؟ لا يمكن إعطاء جواب جازم على هذا السؤال، وذلك نظراً لنظام الرفاهية المتقدم بكل مجالاته في هذا البلد، وقوة اقتصاده وانسانية وحضارية نظامه السياسي. لكننا جميعا سمعنا مسؤول صحي سويدي كبير يقول ما معناه أن إغلاق البلد يقتل أيضا مثل كورونا. لذلك لا يمكن تجاهل الدور الحاسم الذي لعبه العامل الاقتصادي في الكيفية التي تعاملت بها الدول مع هذا الوباء.