الاندماج .. تعبير سياسي بامتياز
الاندماج ليس له جانب واحد فقط، هو ما نراه نحن، فهناك المجتمع الذي نريد الاندماج فيه، وهو له نظرته الخاصة إلى هذا الموضوع. والمحصلة النهائية ستكون نتيجة للتفاعل بين من عليه أن يندمج وبين ما يريده المجتمع. هناك مشكلة في فهم ضرورة التكيف في الوسط الجديد وأي تعبير يناسب عملية التكيف. هذه المشكلة لها ثلاثة أبعاد: أولا) بعد لغوي، فأغلب الناس لا يميزون بين عبارات معينة، ويعتبرونها مترادفة، مثلا: التكيف، التغير، التعديل، التطور، وغيرها. وهذا يؤدي إلى خلق سوء فهم، فرغم تداخل معاني هذه العبارات على السطح، إلا إن التكيف لا يعني، مثلا، التطور الذي يمكن أن يفهم على أن من يتكيف ينتقل من التخلف إلى التقدم. وثانيا) بعد سياسي، فبعض السياسيين يبتدعون تعابير تناسب أجنداتهم ويمكنهم باستخدامها التلاعب بالمعاني حسب مقتضيات مصالحهم. وبهذا الخصوص تعتبر كلمة “اندماج” لوصف عملية التكيف تعبيرا سياسيا بامتياز، خاصة عندما تعزل عن معناها اللغوي. لقد لاحظنا على مدى ما يقارب الأربعة عقود من الجدل حول اندماج الأجانب في الدنمارك ضياع تحديد واضح لمعنى هذه العبارة، ولاحظنا كيف أن الجدل سار على الدوام باتجاه الخلط بين الاندماج في المجتمع وبين الذوبان فيه. إن هذا لم يحصل بشكل بريء، بل إنه يبدو مقصودا.
” عندما أرى شخصا مثل راسموس بالودان أو غيره يحاول أن يسيء إلى القرآن وإلى الرسول الأكرم محمد، أضحك، وأقول عنه “مسكين”. محمد أشبه ما يكون بشجرة باسقة أصلها في الأرض وفرعها في السماء. وهناك أقزام لا يراهم أحد، فيحاولون الصعود إلى أقرب فرع من الشجرة كي يراهم الآخرون.”
د. عمر ظاهر
التكيف عبارة أكثر حيادية وأكثر وضوحا، بينما الاندماج له بعد سياسي، ويحمل الكثير من التشويش المتعمد. وثالثا) وبالارتباط مع الأجندات السياسية، فإن وضوح عبارة التكيف يجعلها غير قابلة للتفسيرات على مستوى الأفراد، بينما عبارة “اندماج” تفتح الشهية لكل فرد في المجتمع الجديد ليدلي بدلوه في محتواها. لذلك نجد أن ما يُتوقع من الأجنبي كي يُعتبر مندمجا في المجتمع يختلف من دنماركي إلى آخر، بل يختلف من حزب سياسي إلى آخر، بل ويختلف بين سلطات الدولة نفسها. لو سألت الدنماركيين: متى تعتبر الأجنبي مندمجا في المجتمع الدنماركي؟ فلا تستغرب إذا حصلت على مليون جواب متباين. ولا تستغرب إذا كان الناس في شبكتك الاجتماعية الدنماركية يعتبرون أنك اندمجت من زمن بعيد، وصرت واحدا منهم، لكن يصادفك شرطي شاب متعجرف، وبعد ثلاثين سنة من وجودك في البلد، أي ربما قبل أن يولد هو، ينتقدك لأنك لست مندمجا في المجتمع بسبب مخالفة مرورية.
الاندماج والذوبان
المشكلة من جانب المجتمع لم تجد حلا، رغم إنشاء وزارة للاندماج، بل ربما يكون إنشاء مثل هذه الوزارة – عاملا يعرقل اندماج الأجانب في المجتمع أو تكيفهم معه. لماذا؟ لأننا كنا قبل ثلاثين سنة نصرخ مطالبين بالتمييز بين دعوة الأجانب إلى الاندماج، وبين مطالبتهم بالذوبان في المجتمع الدنماركي. والآن، وبعد كل ذلك الكفاح المضني، تجاوز الجدال مطلب ذوبان الأجنبي في المجتمع إلى الطلب منه بأن يكون أكثر دنماركيا من الدنماركيين. كيف؟ هل رأيتم شروط الحصول على الجنسية الدنماركية التي تبلورت تحت تأثير حزب الشعب الدنماركي؟ لا أتحدث عن الشرط الطفولي المتمثل بالمصافحة، بل عن المعلومات التي يجب أن يعرفها المتقدم على الجنسية عن تاريخ الدنمارك وجغرافيتها، والتي لا يعرفها أغلب الدنماركيين.
هناك مشكلة أحزاب اليمين المتطرف التي لا تؤمن بأي شكل من أشكال الاندماج. إنها عدوانية بالغريزة، وعدوانيتها غير المبررة تجعلها تعيش بعقلية القرون الوسطى. إنها تعيش على خلق النفور من كل أجنبي في البلد، خاصة العرب والمسلمين. وهذه الأحزاب تتميز بالدهاء، أو في الحقيقة بالخبث، فهي تعرف كيف تخلق النفور بخلق الشقاق. في هذا البلد يضمن الدستور حرية التعبير، وهي في الواقع من نِعم النظام الديمقراطي، فليس هناك كبت، وتكميم لأفواه الناس. لكننا نجد أن مثل هذا الحق الدستوري يساء استخدامه، من خلال الإفساح في المجال لأشخاص مثل راسموس بالودان بتحويل حرية التعبير إلى وسيلة للاستفزاز.
الصغائر تناسب العقول الصغيرة
ولنقل الحق، فإن راسموس بالودان ليس الوحيد الذي يسيء حرية التعبير، فهناك صوت نشاز ينطلق من أكثر من مكان في صفوف العرب والمسلمين أيضا، يدعو علانية إلى نفس ما يدعو إليه بالودان، أي الانعزالية والبغضاء، حتى إنه يمكننا القول إن هناك تحالفا غير معلن بين راسموس بالودان وبين بعض ممن يحتكرون الكلام باسم الإسلام. بالودان وغيره يطلقون الأكاذيب، وهؤلاء يوفرون الدليل على صدق الأكاذيب.
إن همروجة راسموس بالودان ظاهرة مقرفة، وتثير الغثيان، وتكشف حالة من الاستعلاء تسيطر على عقلية النخبة الثقافية اليمينية في الدنمارك، لكن بالودان لا يمثل الدنمارك. كثير من الدنماركيين يقرفون منه، إلا إنهم لا يمكن أن يتعاملوا معه بقبضات الأيادي. إن التكيف مع حالة بالودان يعني أن نقول شيئا بالعربية يوازي ما يقال بالدنماركية (små hjerner små fornøjelser) (الصغائر تناسب العقول الصغيرة)، كلما خرج للتقيؤ في الشوارع.
عندما أرى شخصا مثل راسموس بالودان أو غيره يحاول أن يسيء إلى القرآن وإلى الرسول الأكرم محمد، أضحك، وأقول عنه “مسكين”. محمد أشبه ما يكون بشجرة باسقة أصلها في الأرض وفرعها في السماء. وهناك أقزام لا يراهم أحد، فيحاولون الصعود إلى أقرب فرع من الشجرة كي يراهم الآخرون. أية قيمة لبالودان إن هو لم يتشبث بالإساءة إلى محمد والقرآن؟ وقد يرى بعضهم أنها مفارقة عجيبة أن هذا التقديس للرسول الأكرم محمد يجعلني دنماركيا قلبا وقالبا، فأنا عندي موقف مبدئي، فالرسول الأكرم يملأ كياني وروحي، وقلبي – وهذا لا يتعارض مع حقوقي كمواطن، وأقول ليفعل بالودان ما يشاء. شيء واحد لا أريد أن يحدث وهو أن يتحول بالودان ذات يوم، ويتوب، فيعتنق الإسلام – لا سامح الله، فنحن لا ينقصنا المرضى العقليون في الإسلام. الدنماركيون يحبون مثل هذا الكلام لأنهم يرون أني صرت أفهم ما يسمونه (Dansk humor)، وهو في نظر بعضهم ذروة الاندماج.
التكيف في المجتمع الدنماركي هو مسؤوليتنا، وفيه كل المنفعة والخير لنا، ويسحب البساط من تحت أقدام بالودان وأمثاله. ومن جهة أخرى، فلو وضعنا ظاهرة بالودان في الميزان بين ما جئنا منه، وما جئنا إليه، فأنا لا أجد هذا المسكين يؤثر على حياتي في البلد مثقال ذرة، فهو يعيش في عالم أحلام العصافير. هل فكر القارئ العزيز أن يسألني لماذا لم أعد إلى العراق من أربعين سنة. لأن حياتي في العراق في ظل حكم صدام حسين، كانت كابوسا لم أصدق أني نجوت منه. وماذا بعد سقوط صدام؟ أعود إلى بغداد، وأخاطر بأن أقتَل لأن اسمي عمر؟ يقولون إن الدنماركيين يكرهوننا والدليل هو بالودان. هل بالودان أقسى على المسلمين من المسلمين أنفسهم؟
سننشر الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسلة يوم الخميس 24 سبتمبر/أيلول 2020