الاندماج .. هو أن أكون ما أريد
هناك عبارة بذيئة نسمعها كثيرا، وهي تُطلق على المواقف السلبية تجاه الأجانب في كل بلد، بما في ذلك الدنمارك، ألا وهي عبارة “العنصرية”. وهناك دائما من يحاول استنطاقنا بالسؤال: هل الدنماركيون عنصريون؟ أو: هل هناك عنصرية في الدنمارك.
للإجابة عن السؤال أقول، أولا، أن هناك حالة غريبة لو اعتبر المرء نفسه أجنبيا في بلد يعيش فيه من عشرات السنين، ويحمل جنسيته، ومعظمنا خدم أولادنا في الجيش الدنماركي. نحن لسنا أجانب، ولم نأت إلى هنا كسائحين. نحن مواطنون رغم أنف اليمين المتطرف المتخلف.
وثقافيا فمخطئ من يظن أن المجتمع الدنماركي متجانس بحيث يمكننا أن نتحدث عن ثقافة دنماركية شاملة. هناك ضمن الثقافة الدنماركية عدد كبير من الثقافات الفرعية التي تتناقض قيمها الاجتماعية وسلوكاتها تناقضا بينا، فثقافة الأطباء والأكاديميين، مثلا، ليست نفس ثقافة العمال الحرفيين.
د. عمر ظاهر
العنصرية يمكن أن نصف بها اليمين المتطرف كجزء من الخطاب السياسي الموجه إليه. في الحقيقة إن اليمين المتطرف هو متخلف عقليا، قبل كل شيء، إذ ليس لديه فكر سياسي عميق، وهو يعيش على الغرائز البدائية في خلق النفور والكراهية كاستراتيجية للبقاء. أما فيما يتعلق بالمواقف السلبية من جانب مواطنين عاديين في المجتمع، تجاه هذا أو ذاك، فإن عبارة “عنصري” ليست مستساغة، وتنحرف عن التقدير الموضوعي السليم.
لا يمكن اعتبار أي دنماركي معيار لكل الدنماركيين
المجتمع الدنماركي رائع التنظيم من نواح عديدة، وهو مجتمع القانون إلى حد بعيد، إلا إنه، شأنه شأن كل المجتمعات البشرية الأخرى، يعاني من جوانب ضعف فيما يتعلق بحقوق الإنسان. التقسيم الاجتماعي الطبقي ليس حادا في هذا البلد، رغم أن الغنى والفقر موجودان فيه بحدود واضحة، فهناك من يعيش على الكفاف، وهناك من يكسب الملايين كل سنة. وثقافيا فمخطئ من يظن أن المجتمع الدنماركي متجانس بحيث يمكننا أن نتحدث عن ثقافة دنماركية شاملة. هناك ضمن الثقافة الدنماركية عدد كبير من الثقافات الفرعية التي تتناقض قيمها الاجتماعية وسلوكاتها تناقضا بينا، فثقافة الأطباء والأكاديميين، مثلا، ليست نفس ثقافة العمال الحرفيين. بل إن الثقافة الدنماركية تختلف بوضوح حتى في التقسيم الجغرافي لهذا البلد الصغير، فما يلمسه المرء في العاصمة كوبنهاغن من لبرالية اجتماعية لا يجدها في غرب شبه جزيرة يولاند أو جنوبها، أو شمالها، ولا حتى في جزيرة فيون القريبة من العاصمة. هذه الثقافات الفرعية تتعايش في إطار قانوني واحد في ظل الدستور الدائم. إنه إطار معني بالحقوق والواجبات. لا يمكن اعتبار أي دنماركي كنموذج عام أو معيار لكل الدنماركيين.
غير أن هناك تقسيما آخر أكثر تعقيدا فيما يتعلق بالمجموعات، فالفرد في هذا المجتمع ينتمي إلى مجموعة، أو فئة (gruppe)، وربما إلى أكثر من مجموعة واحدة في الوقت نفسه. هذه المجموعات مستقلة عن التقسيم الثقافي، فهناك، مثلا، مجموعة العاطلين عن العمل، ومجموعة المرضى، ومجموعة المثليين، والباحثين عن العمل، والمستأجرين، وأصحاب العقارات، والمتزوجين، والمطلقين، وغير المتمكنين لغويا، والجاهلين بالقوانين، إلخ. هذه المجموعات موجودة دائما، لكن – على عكس الطبقة والثقافة الفرعية، هناك حركة في المجموعة الواحدة بين داخل إليها وخارج منها، وهي تضم أفرادا من كل الطبقات والثقافات الفرعية.
أهمية شبكة العلاقات
بعض هذه المجموعات ضعيفة. والقاعدة العامة التي تتحكم بها هي أن الإنسان الذي يجد نفسه ضمن مجموعة ضعيفة فإنه سيكون حتما معرضا للاضطهاد والشعور بالغبن، بصرف النظر عمن يكون، مواطنا يقيم في الدنمارك من بضع سنوات، أو دنماركيا أبا عن جد. لنعطي مثالا: العاطل عن العمل ينتمي إلى مجموعة ضعيفة مهددة اقتصاديا، لذلك على المنتمي إلى هذه المجموعة أن يبحث عن عمل. ومجموعة الباحثين عن عمل ضعيفة أيضا. الباحث عن العمل يجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه. عندما يعلن عن وظيفة، يتقدم عليها مئة طالب عمل، وينتهي الأمر بأن واحدا يحصل عليها، وتسعة وتسعون تصيبهم الخيبة، وكل منهم يشعر بالاحباط وبأنه لم يعامل كما يجب لأسباب متنوعة. هناك، مثلا، من يُرفض لأنه كبير في السن؛ وهناك من تُرفض لأن صاحب العمل يقدر أنها لن يمضي عليها غير وقت قصير قبل أن تصبح حاملا، وتذهب في إجازة الولادة والأمومة؛ وهناك أيضا من يرى أنه رُفض لأنه “أجنبي”. هناك تسعة تسعون مبررا. مع أن السبب الرئيسي لرفض التسعة والتسعين هو أن الرقم مئة يحمل المواصفات أو الكفاءات التي يريدها رب العمل، أو أنه يريده شخصيا. وفي هذا السياق نذكر أن المجتمع الدنماركي واحد من المجتمعات التي تستنكر “المحسوبية والمنسوبية”، لكنه يمارسها بصورة واسعة تحت مسمى أكثر تهذيبا هو “أن تكون لك شبكة اجتماعية (netværk)، أو صلات (forbindelser).
هل الجواب إذن أنه ليس هناك عنصرية في الدنمارك؟ لا، الجواب هو أنه ينبغي لنا التمييز بين حالتين، حالة سائدة نكون فيها، نحن المواطنون الجدد، في نفس القارب مع الدنماركيين القدامى، فنتعرض لنفس سوء المعاملة؛ وأخرى نكون فيها ضحية العقلية السمجة لليمين المتخلف – وفي الحالتين بسبب وجودنا ضمن فئات ضعيفة.
د. عمر ظاهر
كثيرون لا يعرفون أن بعض الوظائف في المؤسسات الرسمية تصمم خصيصا لشخص معين، ثم يعلن عنها رسميا مذيلة بعبارة “نشجع الجميع على التقديم بصرف النظر عن الجنس، أو العمر، أو العرق”. إنها محسوبية ومنسوبية تقفز فوق القوانين، ويتعرض لها الدنماركيون بصرف النظر عن أي اختلاف بينهم، فالعشرات يصرفون وقتهم في كتابة التقديم على العمل، وتهيئة المرفقات، ثم الانتظار على أمل الاستدعاء إلى مقابلة. لكن كل ذلك يذهب هباء، فهناك شخص مقرر له سلفا أن يشغل الوظيفة.
نفس الشعور بالضعف والغبن يصيب فئة المرضى الذين صاروا يتصارعون مع السلطات البلدية من أجل الحصول على المساعدة، وعلى الدواء، أو على الإجازة المرضية. ونفس الشيء يصيب من يكون في فئة من لا يجيدون اللغة. القاعدة هي “أنت مضطهد بسبب كونك في فئة ضعيفة”. أنت تسمي الاضطهاد الذي تتعرض إليه عنصرية، وآخر في نفس وضعك يسميه التمييز ضد المرأة، أو استغلال القوي للضعيف، أو الحكومة، أو السياسة المنافقة.
تجاربي الشخصية في سوق العمل
هل الجواب إذن أنه ليس هناك عنصرية في الدنمارك؟ لا، الجواب هو أنه ينبغي لنا التمييز بين حالتين، حالة سائدة نكون فيها، نحن المواطنون الجدد، في نفس القارب مع الدنماركيين القدامى، فنتعرض لنفس سوء المعاملة؛ وأخرى نكون فيها ضحية العقلية السمجة لليمين المتخلف – وفي الحالتين بسبب وجودنا ضمن فئات ضعيفة. لأبين ما أقول أسوق مثالا من حياتي الشخصية. عملت لفترة في مؤسسة علمية مرموقة في وظيفة غير ثابتة. وصدمت بأن رئيس تلك المؤسسة كان شخصا فظا غليظا، يمارس العدوانية بشكل مخيف. شعرت أنه يكره العرب والمسلمين، وأنه يحمل حقدا أسود على الثقافة العربية، وهو بحق وحقيقة طاغية، الفارق بينه وبين الطغاة في البلدان العربية هو أنه لا يستطيع أن يحكم على الناس بالإعدام. جعلني ذلك الرئيس أفكر في ترك العمل عشر مرات في اليوم، لكني قاومت لأني كنت أطمح إلى وظيفة ثابتة في ذلك المكان، وذلك لم يكن سهلا – كنت في فئة ضعيفة. الصدمة الأكبر هي أني عرفت أن هناك العديد من الدنماركيين القدامى ممن تعرضوا لفظاظة ذلك الشخص وعدوانيته إلى حد أنهم لم يتركوا العمل فقط، بل وخرجوا من العمل وهم مصابون بالاكتئاب بسببه، وانتهوا في عيادات النفسانيين للعلاج من آثار عدوانيته. هل كان ذلك الشخص عنصريا؟ في نظري يومها، نعم. لكن ماذا كان أي دنماركي آخر يقول عنه؟ مريض نفسي جعلته شبكته الاجتماعية وصلاته القوية جلادا مغمورا يجلد كل من يقع في براثنه.
ومثال آخر إذ أختتم هذه الحلقات. في مؤسسة أخرى كنت أدرّس العربية، وأبحث في الوقت نفسه عن تمويل لمشروع دكتوراه في الترجمة. تأتينا كل سنة وجبة من الطلاب الدنماركيين الذين كان عليّ أن أعلمهم العربية من الألف باء إلى أن يتمكنوا من اللغة كتابة وقراءة وتحدثا. بعد خمس سنوات – وكنت ما أزال أبحث عن تمويل لمشروعي الدراسي، جاءت منحة دكتوراه في نفس مكان عملي في مجال العربية. في تقديري لم يكن أحد يستحقها غيري. لكني صُعقت حين أعطيَت المنحة لأحد أولئك الطلبة الذين علمتهم العربية. هل كان أولئك الناس عنصريين؟ قطعا لا. إنهم مارسوا المحسوبية والمنسوبية، وهو تقليد متجذر في كل المجتمعات البشرية. الأهم من ذلك: هل استسلمت أنا للإحباط، ورحت ألعن هذا وذاك؟ لا، أيقنت أني لن أحصل على تمويل لمشروعي الدراسي من أحد، وكان عليّ أن أتحدى، وأنجز المشروع مهما تطلب ذلك من جهد، فالأمر كان يتعلق بـ “أن أكون ما أريد، وأحقق ما أراه لائقا بي”.