قيم العدالة الدنماركية انتصرت على النزعات الشعبوية.. ولكن!
مع صدور الحكم بحق الوزيرة السابقة إنجر ستويبيرغ يوم أمس الاثنين تنفس الكثير من الدنماركيين، ومنهم الجدد، الصعداء. ذلك لأن الحكم يعتبر مؤشرا قويا على أن نظام العدالة الدنماركي ما يزال بألف خير، ولم يتأثر قيد شعرة بتصاعد التجاذبات السياسية التي تشهدها الدنمارك منذ بداية الألفية الثالثة، والتي تتميز بصعود كبير لليمين المتطرف.
لقد شهدنا خلال الثلاثين سنة الأخيرة أن حزب الشعب الدنماركي، وهو رأس الرمح في التطرف اليميني يتضخم من حزب لا رصيد له في البرلمان إلى ثاني أكبر حزب فيه. وقد ترك هذا التطور المريع أثرا كبيرا على الحياة السياسية والاجتماعية في البلد. ووصل هذا التأثير إلى حد خلق الارتباك في صفوف الأحزاب اليسارية التقليدية. لقد سجلنا، مع شديد الأسف، أن أكبر هذه الأحزاب (الاجتماعي الديمقراطي) قد انجر إلى ما يشبه التنافس مع حزب الشعب الدنماركي اليميني المتطرف على كسب أصوات الناخبين على حساب مبادئه التي اشتهر بها، وأولها: عندنا مكان للجميع، ونحتاج إلى الجميع (Plads til alle – Brug for alle). هذا الانجرار إلى تقليد اليمين والتنافس معه بنفس أساليبه وشعاراته أفقد الأحزاب اليسارية دور المبادرة في قيادة المجتمع، وجعل هذا المجتمع يعاني من القلق وعدم الاستقرار.
عنصرية مع سبق الإصرار
إن اليمين المتطرف ليس له هدف اجتماعي سام، ولا أفق سياسي سليم، بل يهدف فقط إلى إلحاق الأذى بـ (الأجانب) وعبر كل الوسائل، بما في ذلك غير القانونية التي تصبح في آخر المطاف غير أخلاقية. من الملفت للانتباه في الحكم القضائي بحق الوزيرة ستويبيرغ ورود عبارة التعمد في خرق القانون. إن هذا يجعل من المفهوم أن الوزيرة تصرفت بدوافع مغرضة مع العلم المسبق بأن سلوكها غير قانوني. وهذا هو الجانب الشديد الخطورة في النزعة اليمينية العنصرية، فممثلو هذه النزعة لا يعيرون اهتماما لقيم العدالة، ولا يقيمون وزنا للقانون. وعندما يكون هؤلاء في موقع المسؤولية، كما هي الحال مع الوزيرة العنصرية إنجر ستويبيرغ، فإنهم يلحقون أكبر الضرر ليس فقط بمن يتوجه إليهم هذا الحقد الأسود مباشرة، بل بالمجتمع كله، وبالدولة وقيمهما الديمقراطية.
إن استقلال القضاء هو مقياس سلامة المجتمع. ويمكن اعتبار محاكمة ستويبيرغ فرصة تاريخية أثبت القضاء الدنماركي من خلاله أنه صمام الأمان في سريان قوانين العدالة التي تستند إلى دستور ديمقراطي عريق، فاليمين المتطرف ترك أثره في كل مجال، وبث سمومه العنصرية إلى كل جهة، وخرق القوانين عمدا، لكنه لم يخترق صلابة القضاء الدنماركي. وهذا أمر يدعو إلى التفاؤل، ويعزز ثقة المواطن بالنظام القائم في بلده، رغم الموجة اليمينية المتطرفة الهوجاء.
عدالة ناقصة.. وأحلام القفز لمناصب دولية
بالتأكيد فإنه لا يمكن الفصل كليا بين السياسة وبين كل أوجه النشاط الاجتماعي، فقرار إحالة وزير ما إلى القضاء هو قرار سياسي، ولا بد أن تتوفر إرادة سياسية وأغلبية برلمانية لاتخاذ مثل هذا القرار. إن القضاء لا يمكن أن يتحرك دون أن تكون هناك قضية، ودون أن يكون هناك من يحرك القضية، ويحيلها إليه. لكن روعة الاستقلال القضائي تتجلى بعد ذلك عندما تصبح القضية بين أيدي القضاة. وهنا فإن استقلال القضاء الدنماركي، وإصداره حكما بحبس من خالفت القانون عمدا، هو انتصار للقيم الدنماركية العليا.
لكن كثيرا من الدنماركيين يرون أن العدالة في الدنمارك ناقصة فما يزال هناك من ارتكبوا خروقات قانونية أخطر بكثير مما ارتكبتها إنجر ستويبيرغ، وما يزالون طليقين، ويمارسون حياتهم كأن شيئا لم يحصل، فلم تصل يد العدالة إليهم، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق أنس فو غاسموسن الذي بات واضحا أنه كذب على البرلمان الدنماركي وعلى الشعب الدنماركي في قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية، الكذب الذي أدخل الدنمارك في جريمة غزو العراق فأصبح البلد شريكا في تلك الجريمة بحق ملايين العراقيين الذين احتل بلدهم، وتعرضوا للقتل والتشريد، وفرض عليهم نظام طائفي متخلف باسم الديمقراطية.
إن كون أنس فو غاسموسن ما يزال طليقا لا ينتقص من نزاهة القضاء الدنماركي وعدالته، فقضية غاسموسن لم تصل إلى هذا القضاء أصلا لأن إحالة الجاني إلى العدالة قضية سياسية. ونحن نعرف أن قضية أنس فو راسموسن ليست قضية محلية، بل هي مرتبطة بالعلاقة بين الدنمارك وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي خدمها فو غاسموسن بسياساته الرعناء. إنه نال إزاء خدماته منصبا حساسا في النظام الغربي كله، ألا وهو منصب الأمين العام لحلف شمالي الأطلسي، فأصبح بذلك خطا أمريكيا أحمر لا يمكن تجاوزه. إن زمنا طويلا سيمر قبل أن تتوفر الإرادة السياسية لإحالة أنس فو غاسموسن إلى القضاء. وساعتها سنعرف مرة أخرى أن هذا القضاء عادل ونزيه وعصي على التدخلات السياسية.
إن التدخل الأمريكي في سياسات بلدان حلف الأطلسي لا يمكن اعتباره تدخلا غاشما، بل إنه من نتائج أمركة الفكر والثقافة في هذه البلدان، ففي الدنمارك مثلا أصبح كل سياسي من اليمين، ومن اليسار أيضا – مع الأسف، يعتبر منصب الوزارة مثل منصة قفز (springbræt) إلى موقع دولي، مثلا منصب في الأمم المتحدة، أو حلف الناتو، أو غيرها فيضع هذا السياسي نصب عينيه أن يرضي الأمريكيين لأن موافقتهم هي العامل الفاصل في ترشيحهم لتلك المناصب، والحصول عليها. ولهذا فإن أنس فو غاسموسن يستطيع حسب قول الشاعر العربي جرير أن يبشر بطول الحرية والسلامة من قبضة العدالة الدنماركية. لكن هذه العدالة ستطاله حتما.